Followers

Tuesday, March 30, 2010

سقراط ....مؤسس فلسفة الأخلاق ومنظر العقلانية

ترجمة أكرم أنطاكي: مازال سقراط، الذي يمكن اعتباره أبا الفلسفة الغربية، شخصية يكتنفها الغموض بشكل عام؛ وذلك عائد، ربما، إلى أنه لم يترك لنا أيَّ أثر مكتوب. فقد عرفناه إما من خلال المشنِّعين عليه (كأرستوفانِس في كتابه السحب الجشاء Les Nuées)، الذين صوَّروه كشخص مثير للسخرية و/أو كسفسطائي خطير، و/أو من خلال أتباعه المتحمِّسين (ككسينوفانِس وأفلاطون وأرسطو)، الذين صوَّروه، وفق المنقول المعروف، كـموقظ استثنائي للنفوس وللضمائر. لذلك نرى أفلاطون (الذي كان تلميذه) طارحًا عقيدته على لسانه؛ فسقراط كان بطل معظم حوارات هذا الأخير. من تلك الحوارات الأفلاطونية نذكِّر تحديدًا بـدفاع سقراط وفيذون، اللذين تَرِدُ فيهما كلُّ المعلومات المتعلقة بحياة أبِ الفلسفة وموته. ونتذكَّر هنا، للطرافة، ما جاء على لسان ألكبياذِس في نهاية محاورة المأدبة، حين قارن بين قبح سحنة سقراط العجوز وبين جمال أخلاقه، مشبهًا إياه بالتمثال المضحك لسيليني الذي كان يتوارى خلفه أحد الآلهة.
ولد سقراط في أثينا من أب نحَّات وأمٍّ قابلة؛ وقد مارس في البداية مهنة والده، مكتفيًا بالعيش عيشة بسيطة برفقة كسانتيبي، زوجته التي لا تطاق، حتى وقع ذلك الحدث الذي أيقظ موهبته الفلسفية، حين أخبرت البيثيا، كاهنة هيكل ذلفُس، أحدَ أصدقائه ذات يوم بأن سقراط هو أكثر البشر حكمةً؛ الأمر الذي دفع به، وقد بدا مشكِّكًا في ذلك بادئ الأمر، لأن يندفع في محاولة تلمُّس أبعاد تلك الكلمات التي حدَّدتْ مسار حياته. وهكذا بدأ مسيرته، متلمسًا طريقه من خلال مواطنيه، محاولاً استكشاف مكامن تفوُّقه المفترَض – ذلك المسار الذي أوصله إلى تلك النتيجة التي مفادها أن "كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئًا، بينما يعتقد الآخرون أنهم يعرفون ما لا يعلمون". تلك الحقيقة التي جعلت من فكره الثاقب أمرًا مزعجًا، حينما يقارَن بالامتثالية الفكرية للكثير من معاصريه. فقد كانت نقاشاته التي لا تنتهي تلقى اهتمامًا كبيرًا من قبل الشبيبة، مما أثار قلق أولياء الأمور، الذين سرعان ما اتَّهموه بالإلحاد وبالتجديف وبإفساد أبنائهم؛ الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى محاكمته والحكم عليه بالموت – تلك المحاكمة الشهيرة التي حاول سقراط عبثًا الدفاع عن نفسه خلالها (راجع دفاع سقراط لأفلاطون).
كانت فلسفة سقراط، أولاً وقبل كلِّ شيء، إجابة على طروحات أناكساغوراس، الذي كان يعتقد بأن فطنة الإنسان إنما تعود فقط لامتلاكه يدين (أدوات عمل). أما سقراط فقد كان يعتقد بأن فطنة الكائن البشري إنما علَّتُها تلك الروح العاقلة القوَّامة على الجسد، والتي تشارك الإله في طبيعته. انطلاقًا من هذه القناعة ومن هذا الاعتقاد انبثق العديد من تعاليمه؛ لأنه إن كانت نفس الإنسان ذات أصل إلهي (ونشير هنا إلى أن سقراط، خلافًا للمعتقدات السائدة، لم يكن يعتقد بأن الآلهة تعاني من انفعالات بشرية)، فإنه يصير بوسعنا قبول ذلك المفهوم الداعي إلى ضرورة تفهُّم أفضل للنفس، أي "اعرف نفسك"، العبارة المنحوتة على واجهة هيكل ذلفُس، التي اتخذها سقراط شعارًا: "حياة لا يُفحَص عنها لا تستحق أن تعاش". لأن أكثر ما يشدِّد العزيمة، حينما يتعلق الأمر بفناء الجسد، هو الإيمان بخلود الروح (راجع فيذون لأفلاطون). ونشير هاهنا، بالإضافة إلى ما سبق، إلى شجاعة سقراط وهدوئه قبل أن يجرع كأس السمِّ الذي وضع حدًّا لحياته؛ ونستذكر أقواله حين قارن نفسه بالبجعة التي تغني قبل أن تموت، ليس لأنها تخاف الموت، وإنما بدافع ما تتطلَّع إليه من سعادة ومن أمل.
يعتقد سقراط أن الكرامة الحقيقية للنفس إنما تنبثق من العلم الذي هو ميراثها الحق. لكن العلم الذي يعتقد به لم يكن يرتكز، كما هي حالنا اليوم، على ظواهر العالم الخارجي: فقد اتخذ سقراط، منذ البداية، موقفًا معارضًا من منظِّري الطبيعة لافتقارهم إلى الحسَّ الإنساني؛ واتخذ أيضًا، في الوقت نفسه، موقفًا معارضًا من مذهب السفسطائيين، الذين لا يمتلكون موهبة الحسِّ العلمي. فقد جمع سقراط بين المبادئ المقبولة للفيزياء وبين إتقان الجدل – جمع ما بين الشكل العلمي للمذهب الأول وبين الهمِّ الإنساني للثاني – جاعلاً من علم الأخلاق في القلب من مسعاه الفلسفي. لأنه، وفق مفهومه، بات يجب على الروح، التي تخلَّت عن محاولة فهم الكون، الهبوطُ إلى أعماق نفسها، كي تستنبط الحقائق الأساسية الكامنة في تلك الأعماق على شكل حالات بالقوَّة (راجع النظرية الأفلاطونية المتعلقة بالتذكُّر reminiscence)؛ الأمر الذي يجعل النفس قادرة على الإحاطة بالمعرفة، بدون أن تقع أسيرة للأشياء الخارجية (وهذا ما سيبرهن عليه لاحقًا كلٌّ من ديكارت وكانت). إذ إنه أضحى من واجب العلم الرافض للانفعالات البشرية أن يركِّز على ماهية المعاني المجردة (أو الـconcepts)، التي كان سقراط أول من اكتشف مفهومها. فعن طريق السكينة والاستقرار الداخليين، نتوصل إلى استنباط جوهر الأشياء، ونتمكَّن من التعبير عنه بواسطة التعريفات. وكان هذا ما فعله سقراط – ممهدًا بذلك الطريق للنظرية الأفلاطونية التي ستليه – حين حاول، على سبيل المثال، تعريف مفهومي "الشجاعة" lachès و"الصداقة" lysis.
وبما أن موهبة (فنَّ) العيش السليم، كطريق إلى السعادة (والخير هو السعادة وفق المأثور القديم)، مرتبطة بمعرفة النفس، فإنها، متجاوزةً حذاقة السفسطائيين، تكشف ضلال البشر الذين لا يهتمون، في معظم الأحوال، إلا بالأشياء التافهة الزائلة (كالثروة، والسمعة، إلخ)، ويتجاهلون ما هو أساسي، أي الحقيقة الكامنة في نفوسهم. وتبدأ المعرفة، بحسب سقراط، بفعل تطهُّر (سبق أن دعا إليه الأورفيون والفيثاغوريون)، يُظهِر، من خلال التخلُّص من الأفكار المسبقة بإظهار بطلانها، مختلف الخصال الحميدة (كالاعتدال، والعدالة، إلخ)؛ تلك التي، إنْ أحسن المرء استعمالها، تتحول إلى فضائل؛ إذ "لا أحد شرير باختياره"، وإنما بسبب الجهل. هذا وترفض طريقة سقراط لبلوغ المعرفة كلَّ وحي يتجاوز العقل – فـ"شيطان" سقراط هو في المقدرة على الإقناع، وليس في الإبداع – وتعتمد الجدلية dialectique؛ لأن هذه الأخيرة، عِبْر مرحلتيها اللتين هما التهكُّم والتوليد (الذي هو، على طريقة سقراط، استيلاد الحقيقة من النفس maïeutique) تسمح – وسط أجواء من الصداقة – باستخلاص نقاط التلاقي بين المتحاورين، أي الحقائق الكونية المتعارَف عليها وفق متطلَّبات المنطق.
لقد كان سقراط بحق مؤسِّس فلسفة الأخلاق وأول منظِّر للعقلانية (الأمر الذي سيُكسِبُه عداء نيتشه). كما كان داعية إلى حرية الرأي والتفكير الفردي؛ مما جعل منه، بالتالي، مثالاً يُحتذى في كلِّ موروث فلسفي لاحق. (معابر)
***
ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

مراجعة: ديمتري أفييرينوس.  

 


مراجع المادة
-          J. BRUN, Socrate (PUF).
-          M. SAUVAGE, Socrate et la conscience humaine (Le Seuil).

Wednesday, February 10, 2010

منحنى باريتو……Pareto Chart

عندما نُحاول حل مشكلة لها الكثير من الأسباب فإننا نُواجه مشكلة تحديد الأسباب أو الحلول الأكثر أهمية. فعلى سبيل المثال عندما نواجه مشكلة العيوب المتكررة في المنتج فإننا نجد أن هناك الكثير من الأسباب ويُمكننا التغلب على كل سبب بمجموعة من الحلول. ولكن أين نبدأ؟ أمامنا حلول كثيرة وبالطبع كلها تحتاج مجهود وموارد مادية فهل نختار بعض الحلول بطريقة عشوائية أم يجب أن نطبق كل الحلول في آنٍ واحد؟ هذا هو السؤال الذي يُجيب عنه منحنى باريتو  Pareto Chart
ما هو منحنى باريتو؟
هو منحنى بياني يُرَتِّب الأسباب من حيث حَجم تأثيرها في المشكلة محل الدراسة. ففي المثال السابق قد يكون هناك أسباباً عديدة مثل سوء حالة الماكينات أو ضعف المهارات الفنية للعاملين أو عيوب في المادة الخام أو أخطاء في تداول المنتج أو أخطاء في تغليف المنتج أو عيوب في التصميم. لِرسم منحنى باريتو علينا تحديد نسبة العيوب من كل سبب من هذه الأسباب كأن نأخذ فترة زمنية مناسبة ونحدد عدد العيوب من كل سبب. ثم نقوم بتحديد نسبة العيوب الناشئة عن كل سبب إلى العدد الكلي للعيوب بمعنى ان نحدد النسبة المئوية للعيوب الناشئة عن كل سبب. بعد ذلك نقوم بترتيب الأسباب من حيث النسب المئوية للعيوب بدءً بالأكبر فالأقل وهكذا. وأخيرا نرسم منحنى كالموضح أدناه




بِنَظرة سريعة للمنحنى نَتَّفِق جميعا على أننا يجب أن نبدأ بمعالجة أخطاء العمالة الإنتاجية لأنها تتسبب وحدها في 60% من مشاكل جودة المنتج. من الواضح كذلك أننا قد نلجأ لتحسين خالة الماكينات الإنتاجية كخطوة ثانية. ماذا نسنتنج كذلك من هذا المنحنى؟ إن عُيوب التصميم وعيوب المواد الخام ليست ذات أهمية مقارنة بباقي الأسباب فهما يُمَثِّلان 3% فقط من العيوب
من هنا كان استخدام منحنى باريتو أو منحنى الأولوليات أمرا مفيدا جدا لأنه يساعدنا على تحديد الأولويات بدلا من تشتيت الجهد والموارد في التغلب على أسباب ليست ذات تأثير. حاول أن تتذكر الاجتماعات والمناقشات التي حضرتها والمماثلة لهذا الموضوع. هل تم تحديد الأولويات بهذه الطريقة أم أن الحاضرين ظلوا يتحدثون عن أسباب عديدة ليس لها أي تأثير؟ في غياب المعلومات الرقمية في الجدول فإنك تسمع في الاجتماعات من يقول: لقد حدث عيب في المنتج بالأمس نتيجة سوء التصميم، وتسمع الآخر يقول: لا لا لا إن عيوب المواد الخام هي الأساس، وتسمع آخر ينفعل قائلا: يا أساتذة كيف لنا أن نرفع جودة المنتج مع وجود أخطاء متكررة في التغليف، يجب أن نبدأ بالتغليف. وتستمر المناقشة غير المثمرة والمبنية على التخمين وينتهي الأمر بالاتفاق على البدء بالسبب الذي تبناه أعلى الأعضاء صوتا أو أعلاهم منصبا.
منشأ منحنى باريتو؟
فكرة منحنى باريتو منشأها مبدأ باريتو أو قانون 80 – 20 والذي يعني أنه في أغلب الأحيان فإن 20% من الأسباب تتسبب في 80% من النتائج. لا يشترط ان تحقق القاعدة في جميع الأحوال بنسبة 80% و 20% ولكن قد تختلف قليلا ولكن في معظم الأحيان ستجد ان جزء قليل من الأسباب تسبب في الكم الأكبر من النتائج. ولذلك كان منحنى باريتو مفيد ا لأنه يبين لنا الأسباب التي تتسبب في معظم النتائج
استخدامات منحنى باريتو
منحنى باريتو ليس خاصا بمشاكل جودة المنتج فقط فهو مفيد في دراسة أي مشكلة لها أسباب متعددة أو لتحديد الأسباب الرئيسية لنجاح شيء ما. فمثلا إذا كنا نريد أن ندرس سبب انخفاض إيرادات مطعم فول أو مطعم دجاج فإننا نقترح أسبابا عديدة ولكننا نحتاج معرفة الأسباب الأهم ولذلك فقد نقوم بسؤال العملاء السابقين والحاليين عن أي مشاكل يجدونها في المطعم وفي الوجبات ومن نتيجة هذا الاشتقصاء نرسم منحنى باريتو ونكتشف الأسباب الرئيسية
عندما نريد زيادة إقبال العملاء على منتجنا فإننا قد نلجأ إلى زيادة مصاريف التسويق ولكن ما هي أفضل قنوات التسويق؟ هل نقسم زيادة المصاريف على كافة القنوات بالتساوي أو أن علينا ان ندرس وسيلة التسويق الأكثر تأثيرا في مبيعاتنا. للقيام بذلك علينا أن نسأل العملاء عن وسيلة التسويق التي عرَّفتهم بمنتجنا وبناء عليه نرسم منحنى باريتو ونتعرف على قنوات التسويق الأكثر تأثيرا وتلك التي ليس لها تأثير نسبي كبير

طبيعة الوجود - حديث بين رابندرانات تاغور وآينشتاين في بيت آينشتاين

حديث بين رابندرانات تاغور
وآينشتاين في بيت آينشتاين
بكابوت يوم 14 تموز 1930 بعد الظهر
آينشتاين - هل تؤمن بأن هناك شيئاً إلهياً مفارقاً للعالم.
تاغور - لا، أنه غير مفارق. أن شخصية الإنسان اللانهائية تشمل العالم.
لا يوجد شيء لا تستطيع شخصية الإنسان أن تكون فوقه هذا يدل على أن حقيقة الكون هي الحقيقة الإنسانية، انتخبت حادثاً علماً لتصوير ذلك. أن المادة مؤلفة من بروتونات والكترونات بينها فراغ ومع ذلك فالمادة يمكن أن تظهر صلبة. كذلك البشرية فهي مركبة من أفراد، ومع ذلك فإن بين الأفراد صلات وعلاقات بشرية تهب عالم الإنسان صلابة حية والكون متصل بنا أيضاً على هذه الصورة، فهو كون بشري. لقد تتبعت هذا الفكر في الفن والأدب وشعور الإنسان الديني.
آينشتاين. - يوجد نظرات مختلفات في طبيعة الكون:
1 - العالم من حيث هو وحدة تابعة للبشرية،
2 - العالم من حيث هو وجود مستقل عن العوامل البشرية.
تاغور. - إذا اتسق الكون مع الإنسان الأبدي عرفنا حقيقته وشعرنا بحماله.
آينشتاين. - إن هذا النظر إلى الكون إنساني محض.
تاغور - لا يوجد مفهوم غير هذا أن هذا العالم هو إنساني، ومفهومه العلمي هو مفهوم الإنسان الكلي. هناك درجة من العقل والتلذذ تجعل العالم حقيقياً، وهي مقياس الإنسان الأبدي الذي تصدر تجاربه عن تجاربنا.
آينشتاين - إن هذا الأمر هو تحقيق للذات الإنسانية.
تاغور - نعم، الذات الأبدية، يجب علينا أن نحققها بانفعالاتنا وأفعالنا نحقق الإنسان السامي الذي ليس له حدود شخصية تشبه جدودنا. العلم يهتم بما هو غير مقصور على الأفراد، فهو عالم بشري لا شخصي. يوجد الحقائق ويجمع بينها وبين أعمق حاجاتنا. أن لشعورنا الفردي بالحقيقة معنى كلياً. أن الدين يطبق على الحقيقة قيماً. والحقيقة تبدو لنا وجودية لا تساقنا وتآلفنا معها.
آينشتاين. - وعلى ذلك تكون الحقيقة (أي الجمال)، غير مستقلة عن الإنسان؟.
تاغور - نعم غير مستقلة.
آينشتاين - إذن لولا وجود أفراد البشر لما كان ابولون بيلفيدر جميلاً.
تاغور - نعم.
آينشتاين - أني أوافقك على رأيك في الجمال ولا أوافقك على رأيك في الحقيقة.
تاغور - لماذا لا توافقني أن الحقيقة موجودة في الإنسان.
آينشتاين - لست استطيع أن أثبت صحة رأيي، ولكن ذلك هو ديني وإيماني.
تاغور - الجمال في المثل الأعلى الكامل المتحقق في الموجود الكلي.
والحقيقة هي الفهم الكامل للروح الكلية. ونحن الأفراد نتقرب منها بواسطة أخطائنا وضلالا لتنا وتجاربنا المجتمعة وشعورنا المستنير - كيف نستطيع أن نطلع على الحقيقة بدون ذلك؟
آينشتاين. أنني لا استطيع أن أثبت علمياً أن الحقيقة يجب أن تدرك مستقلة عن البشرية. ولكنني أؤمن بذلك إيماناً قوياً. اعتقد مثلاً أن نظرية فيثاغوروس في الهندسة تثبت شيئاً قريباً من الحقيقة مستقلاً عن وجود الإنسان. وسواء أصح ذلك أم لم يصح فإن هناك وجوداً مستقلاً عن الإنسان وحقيقة تابعة لهذا الوجود، إن إنكار الوجود يقتضى بالضرورة إنكار هذه الحقيقة.
تاغور. - إذا كانت الحقيقة لا تختلف عن الموجود الكلي وجب أن تكون إنسانية بالذات. ولولا ذلك لما كان الحقيقي صحيحاً، وخصوصاً الحقيقة العلمية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بالمنطق أي بآلة التفكير الإنسانية. جاء في الفلسفة الهندية أن يراهما هو الحقيقة المطلقة، وإنه لا يدرك بالفكر الفردي، وإنه لا يوصف بالألفاظ بل يمكن تحقيقه بانصهار الفرد تماماً في اللانهائية. غبر أن هذه الحقيقة ليست من نطاق العلم. إن طبيعة الحقيقة التي نتناقش فيها هي ظاهرة من الظواهر أي أن ما يبدو حقيقة للفكر البشري - وهو بالنتيجة إنساني - يمكن أن يدعى (مايا) أي الضلال.
آينشتاين. - وهكذا حسب رأيك (الذي قد يكون مذهب الهنود) أن هذا الضلال ليس ضلالاً فردياً بل هو ضلال البشرية جمعاء.
تاغور. - أننا في العلم نتبع طريقة تؤدي إلى حذف حدود أفكارنا الفردية ونصل هكذا إلى مفهوم الحقيقة المرتكزة على فكر الإنسان الكلي.
آينشتاين. - إذن فالمسألة هي: هل الحقيقة مستقلة عن شعورنا؟.
تاغور. - إن ما نسميه كائن في الاتساق العقلي بين الوجهات الشخصية والوجهات الموضوعية للوجود، وهذه الوجهات كلها للإنسان اللاشخصي أي الذي هو فوق الأشخاص.
آينشتاين. - ولكننا نشعر، حتى في حياتنا اليومية، إننا مضطرون إلى الاعتراف بأن للأشياء التي نستعملها كل يوم وجوداً مستقلاً عن الإنسان. أننا نفعل ذلك لإيجاد نسبة معقولة بين مسلمات الحواس المختلفة. مثال ذلك إذا أحد لم يكن في البيت فإن هذه المنضدة تبقى حيث هي.
تاغور. - نعم، إنها خارج العقل الفردي، ولكن ليس خارج العقل الكلي. إن هذه المنضدة التي أراها تدرك بشعور شبيه بشعوري.
آينشتاين. - إن وجهة نظرنا الطبيعية في وجود الحقيقة مستقلة عن الإنسانية لا يمكن أن توضح ولا أن تثبت، ولكنها اعتقاد لا يفارق أحداً حتى الإنسان الابتدائي، فنحن نقول بموضوعية الحقيقة ونعتقد أن هذه الموضوعية هي فوق الإنسان وإن الحقيقة ضرورية لنا وأننا، وإن كنا لا نعرف معنى هذا الوجود وحقيقته، نثبت للحقيقة وجوداً مستقلاً عن وجودنا وتجاربنا وعقولنا.
تاغور. - لقد أثبت العلم أن المنضدة من حيث هي شيء صلب ليست إلا ظاهرة من الظواهر، ينتج من ذلك أن الشيء الذي اعتبره العقل البشري منضدة لا وجود له إلا إذا كان العقل موجوداً. وفي الوقت نفسه يجب أن نعلم أن خالص وجود المنضدة من الوجهة المادية ليس إلا جملة من مراكز القوى الكهربائية المنفصلة والدائرة بعضها حول بعض وإن حقيقتها تابعة أيضاً للعقل البشري.
إن في معرفة الحقيقة نزاعاً أبدياً بين الفكر البشري الكلي والفكر البشري الضروري. وهناك وئام دائم يحصل بين علمنا وفلسفتنا وأخلاقناً. وعلى كل حال فإنه إذا وجد حقيقة مطلقة لا علاقة لها لا إنسانية فهي بالنسبة إلينا غير موجودة.
ليس من الصعب أن نتخيل فكراً لا يطلع على الأشياء ضمن نطاق المكان بل داخل الزمان 
كترتيب الأصوات في الموسيقى. إن مفهوم الوجود بالنسبة إلى هذا الفكر متصل بالوجود الموسيقي الذي لا معنى للهندسة الفيثاغورية فيه. إن حقيقة وجود الورق مختلفة تماماً عن حقيقة وجود الأدب. فالأدب غير موجود بالنسبة إلى الحشرات التي تأكل الورق، ولكن بالنسبة إلى عقل الإنسان للأدب قيمة أعظم من حقيقة الورق. وبالصورة نفسها إذا كان هناك حقيقة ليس لها بفكر الإنسان علاقة حسية أو عقلية فلا قيمة لها بالنسبة إلينا ما دمنا بشراً.
آينشتاين. - إذن، أنا أكثر إيماناً منك
تاغور. - إن ديانتي هي في الاتفاق بين الإنسان اللاشخصي (أي الفكر البشري الكلي) وبين الوجود الفردي. وهذا هو موضوع محاضراتي في هيبر التي سميتها ديانة الإنسان.
نقلاً عن ديانة الإنسان لتاغور